الاستحقاق العالي: بين التواضع والتعالي

في عالم تختلط فيه القيم بالمظاهر، يبرز الاستحقاق العالي كقوة داخلية تنبع من احترام الذات، لا من التفاخر والتكبر والتعالي. هذه المقالة تدعو القارئ لأن يكون كالصقر العربي: شامخًا، حُرًا، لا يخشى الوحدة، ولا يهبط إلى مستوى لا يليق به. فكما يحلق الصقر فوق الغربان، يحلق صاحب الاستحقاق فوق العلاقات والمواقف التي لا تنسجم مع قيمه.

الاستحقاق العالي: بين التواضع والتعالي
صاحب الاستحقاق العالي لا يُقايض كرامته بالعلاقات، ولا يؤجل قيمه بحثًا عن القبول.


الرغبة في السمو تعد من الرغبات الأساسية في النفس البشرية، وتتقاطع مع بعض الاحتياجات التي تناولها أبراهام ماسلو في نظريته حول الدافع البشري، مثل الحاجة إلى التقدير وتحقيق الذات. يُنظر إلى السمو على أنه منظومة متكاملة من الأفكار والسلوكيات التي تتطور وتُصقل عبر تجارب الحياة، سواء كانت جميلة أو مريرة (1).

الاستحقاق الذاتي: بوصلة قيمك

الاستحقاق الذاتي هو إيمانك بأنك تستحق كل ما هو جيد في الحياة من احتياجاتك الأساسية. في هذا المقال، أضيف إلى هذا المفهوم نقطة الإمكانيات والخيارات المتاحة أمامك، مع وجود بوصلة داخلية توجهك. هذه البوصلة هي مرجعيتك التي بنيت عليها قيمك، والتي ستمنعك من أي عمل أو تصرف لا يتوافق معها، مهما بدا ذلك الفعل براقًا من الخارج.

ذلك لأنك ترى أن نفسك أسمى من أن توضع في مواقف غير مناسبة. أنت تطمح للأفضل وتؤمن إيمانًا راسخًا بأنك تستحقه، وتعمل جاهدًا للوصول إليه. ولكنك لن تقوم بعمل لا يتناسب مع مرجعيتك وقيمك للحصول عليه. إن رغبتك في الحصول على الأفضل نابعة من رغبة صادقة لتحقيق أفضل نسخة من ذاتك (احتياجات تحقيق الذات)، وليس لإبهار الآخرين. فإبهار الآخرين يندرج ضمن التعلق بالمظاهر، وهو ما يعتبره كتاب "تأملات في السمو الإنساني" من احتياجات النجاة، مقارنة بالرغبة الصادقة في تحسين الحال الفردي أو ما يُعرف بـ"تحقيق الذات" (احتياجات الوجود) (1).

الرضا والطموح: وجهان لعملة واحدة

أنت متفهم ومتقبل لطبيعة الحياة الدنيا، وتدرك أنه لا يوجد فيها شيء كامل أو مثالي، وأننا لم نُخلق لنعيش سعادة مطلقة ودائمة. هناك أيام سعيدة وأيام حزينة. أنت ترضى بالقضاء والقدر وما قسمه الله لك من رزق، مع سعيك الدؤوب للحصول على الأفضل. قد تُحرم أحيانًا مما تتمناه، وقد تحزن على ذلك وتعتقد أنها نهاية الحياة. ولكن مع مرور الأيام، تكتشف أن حرمانك من ذلك الأمر كان سبب سعادتك الحالية، فتشكر الله سبحانه وتعالى أنه منع عنك ما كنت تحلم به سابقًا.

تعلم يقينًا أن ما لم يكتب لك، كان شرًا لك، وأن الله سيرزقك كل ما هو مناسب في الوقت المناسب. لذلك، لا تجد في روحك الطمع أو الجشع. لا تحدد قيمتك بناءً على الأشخاص في حياتك، بل تنظر إلى ما يضيفونه لك من طاقة إيجابية وسعادة. هم يساعدونك على الارتقاء بشكل مباشر أو غير مباشر.

بمعنى آخر، إن وصلت إلى مرتبة عالية، لن تضع معايير غير منطقية لشريك حياتك، مثل أن يكون أعلى منك مالًا وعلمًا، لأنه لا يحدد قيمتك بل يُضيف إليها. هو يكمّلك بما ينقصك، لأنك تنظر إلى الإنسان كإنسان، وتريد أن يضيف لحياتك لونًا جميلًا تفتقده وتجده عنده (فالعلاقات تكملة للأُنس وليست للتباهي والتفاخر). حتى إن كان لا يملك أفضل مما تملك، ولن تضع معايير غير منطقية لأصدقائك ما داموا يضحكونك في يوم حزين، ويقفون معك في أيامك الصعبة ويحترمونك.

اغتنام الفرص

لن تنتظر الفرصة المثالية وتُفوِّت ما هو متاح أمامك. بل تجد في روحك الرضا والسلام واستغلال الموارد والفرص المتاحة بحكمة للوصول إلى ما تريد. فالأشخاص الذين يعرفون ما يريدون في هذه الحياة، يستغلون كل ما هو متاح أمامهم للوصول إلى غايتهم.

يمكننا تشبيه ذلك بقيادتك لسيارتك للذهاب إلى مقهاك المفضل. أنت تعرف وجهتك، وقد تضل في بعض المنعطفات، ولكن لأنك تعلم إلى أين تريد أن تذهب، تستخدم الطرق الفرعية لتصل إلى وجهتك، حتى وإن وصلت متأخرًا. كذلك هي الفرص المتاحة أمامك، ما دمت تعرف غايتك ومبتغاك، تستغلها لتصل وإن كان وصولك متأخرًا، ببساطة لأنك تعلم ما تريد.

وصول من يستغلون الفرص لمصلحتهم ليس حظًا (رغم أن الحظ يلعب دورًا أحيانًا)، ولكن من يعلم جيدًا ما يريد يصل. فعندما تطرق الفرصة بابه (حتى وإن كانت غير مثالية)، لا يفوتها ويدعها تهرب بحجة أنه يستحق فرصة أفضل. قد تكون تلك الفرصة غير المثالية بابًا لفرصة أروع في المستقبل. فالفرصة عندما تأتي لمن يعرف ما يريد، لا يدعها تفلت من يديه. وعندما تأتي للمتردد الذي لا يعرف ما يريد، لا يستغلها، وبعد سنوات يدرك أنه قد ضيع فرصة حياته التي لن تتكرر، وإن تكررت، فلن تكون كالسابقة. فمن يعرفون ما يريدون يعلمون يقينًا أن تلك الفرص هي تسهيلات وضعها الله عز وجل في طرقهم ليرتقوا ويسموا، وأن الطمع والجشع والتردد قد يجعل تلك الفرصة تذهب بلا رجعة. وهكذا تلعب طريقة تفكير "الاستحقاق العالي غير المنطقي" دورًا في تضييع الفرص الجيدة.

الاستحقاق العالي بين محمود ومذموم

وفقًا لمقالة نُشرت في عام 2025 (2)، فإن الشعور بالاستحقاق العالي قد يكون محمودًا أو مذمومًا.

  • الاستحقاق المذموم: يجعل الشخص يعتقد أنه مميز عن باقي البشر، وأن القواعد لا تنطبق عليه، وهو ما يشبه الغرور. يعتقد هذا الشخص أنه استثناء في هذه الأرض، وأن كل ما يريده سيأتيه على طبق من ذهب حتى لو لم يسعَ إليه بالشكل الكافي. وهذا يغذي عقلية شخص متمركز حول نفسه فحسب، ولا يهتم بالآخرين أو بمشاعرهم.

  • الاستحقاق المحمود: يمكن أن يكون إيجابيًا نابعًا من شعور الشخص بالثقة بنفسه نتيجة كفاءته. ونضيف هنا، أنه بسبب تجاربه الحياتية التي صقلت شخصيته، فيجد أن ما حصل عليه هو نتاج كفاءته وعمله الدؤوب على الصعيد الشخصي أو المهني. هذا الأمر صحي ومطلوب. ستجد هذا الشخص غالبًا متواضعًا، لأنه لا يصل إلى هذه المرحلة إلا بعد أن يتجرع مُر الحياة مع أيامها الحلوة. يشعر بالتعاطف تجاه الآخرين، ويتواضع بما آتاه الله عز وجل، فلا يرى نفسه أفضل من إنسان آخر. هو يعمل ليرتقي لأنه يستحق الأفضل، ولكنه في نفس الوقت يساعد، يتعاون، ويتعاطف مع الجميع.

يمكننا توضيح مفهوم الاستحقاق العالي بين الأفراد من خلال أمثلة في مجالي الصحة الجسدية والنفسية.

في الصحة الجسدية

تجد أنك تستحق أن تكون في منزل نظيف وبيئة نظيفة، ولذلك تقوم بتنظيف مساحتك. تجد أنك تستحق أن تتقدم في العمر بصحة جيدة معتمدًا على نفسك، وبالتالي تتناول الأطعمة الصحية وتحافظ على التمارين الرياضية مثل تمارين المقاومة لزيادة الكتلة العضلية، التي ستساعدك على التقدم في العمر باستقلالية.

في الصحة النفسية والعلاقات

ترى أن الاحترام عنصر أساسي في أي علاقة بشرية، وخاصة في علاقات الصداقة التي تقوم على التقدير والاحترام المتبادل. في أحد المواقف، وخلال لحظة انفعال، عبّر أحد الأشخاص عن مشاعر حملت شيئًا من القسوة، وتفوه بكلمات انتقادية حادة وغير لائقة. لم تكن هذه الكلمات منسجمة مع روح الاحترام التي يفترض أن تسود بين الأصدقاء، كما أظهر في حديثه شعورًا بالتكبر (متخفيًا برداء الاستحقاق العالي)، وكأن صداقته تعد امتيازًا للطرف الآخر يجب أن يُقابل بالشكر والامتنان.

ترى أنك تستحق الحب والوفرة في علاقة تتوج بالزواج من شخص يتناسب معك. قد يتم حشو ذهنك بما يجب أن يكون عليه شريك حياتك وفقًا لمعايير اجتماعية خارجية قد لا تكون أنت من وضعتها لنفسك. خاصة بين النساء، يتم تصوير الرجل المثالي وفقًا لمعايير العالم المعاصر ونجوم وسائل التواصل الاجتماعي: صاحب الثراء الفاحش، المال، الطائرات الخاصة، أو ممن يعملون في المجالات العلمية، أو أن يكون شخصًا ذا تعليم متقدم، ومرتبة أعلى منك، حتى وإن كان مختلفًا عنك فكريًا ومن جيل مختلف تمامًا، ولا يشاركك اهتماماتك أو يعرف ما يضحكك وما يبكيك. إنه ليس شريك حياة في مُرّها وحلوها، وضحكها وبكائها، بل هو فقط واجهة اجتماعية تثير إعجاب الآخرين وتلبي غرورك الاجتماعي.

في المقابل، تجد شخصًا قد لا تتوفر فيه كل المعايير الخارجية التي حُشِيَ بها ذهنك من مال وحسب ونسب، ولكنه يملك قيمًا وأخلاقًا ويشاركك اهتماماتك ويرغب بمشاركتك أيامك التعيسة قبل السعيدة (شريك حياة)، وهو مستعد لتوفير التزام جدي وشرعي.

أين يكمن الاستحقاق العالي في تلك المواقف؟

في هذه المواقف، لأنك صاحب استحقاق عالٍ وتستحق الأفضل، وتعمل بالإمكانيات المتاحة أمامك لتحقيق الهدف المرجو:

  • تتمنى أن يكون لديك مدرب شخصي، ولكن قد لا تملك النقود الكافية لتوظيفه. ومع ذلك، تحافظ على التمارين الرياضية.

  • تتمنى أن يكون لديك عامل يساعدك في تنظيف المنزل، ولكن قد لا تكون لديك الموارد المادية لتغطية التكلفة. ومع ذلك، مساحتك نظيفة بجهدك.

  • لن تقبل علاقة صداقة لا يتم احترامك فيها، ولن تقبل أن يتم تجاوز حدودك. أنت مستعد أن تقضي الوقت وحيدًا كالصقر على أن تكون برفقة صديق متكبر لا يكن لك ذرة من الاحترام. الوحدة هنا رمزٌ للشموخ.

  • قد تقع في فخ شخص يلمع من الخارج، صاحب المعايير المثالية من مال، ومنصب عالٍ، وعلم، ونسب، ولكنه مُعتم من الداخل ولن يوفر لك أي التزام جدي أو شرعي. لن يضيف لك شيئًا إيجابيًا في حياتك، بل سيضيف خسارة الوقت والجهد والصفاء الذهني. هنا، تكون جريئًا وتتركه لأنك لا تخاف من الوحدة، تحلق عاليًا وحيدًا كالصقر العربي.

في هذه الحياة، لسنا متحكمين بما نواجه من أشخاص ومواقف لكي نربط قيمتنا واستحقاقنا بهم، لكننا نملك التحكم في ردود أفعالنا تجاهها. ويلعب الاستحقاق العالي دورًا هامًا في تفاعلاتنا مع العالم الخارجي.

إذا كنت صاحب استحقاق عالٍ، فلن تجد نفسك تهدر وقتًا وجهدًا مع شخص لا يقدم التزامًا واضحًا أو خطة جدية للعلاقة منذ اليوم الأول من معرفتك به، بل تتركه بابتسامة مشرقة، متطلعًا لما هو أفضل في المستقبل. لأنك تدرك أن نفسك أسمى من أن تُهدر في علاقات لا تلبي احتياجاتك. ولن تشعر بالخجل في التعبير عن احتياجاتك منذ بداية معرفتك به، ستكون واضحًا وصريحًا. فمن أرادك قبلك كما أنت، ومن لم يرغب، فله خياراته في هذا العالم الواسع. ولن تقبل أن يتحدث إليك صديقك بطريقة غير لائقة أو تقلل من احترامك.

في كل ذلك، لا ترى نفسك ضحية للموقف، بل شخصًا واعيًا يختار ما يناسبه، ويضع حدوده بوضوح، ويمنح نفسه الحق الكامل في الابتعاد عن كل ما لا ينسجم مع قيمه واستحقاقه كالصقر العربي.

الحياة مليئة بالفرص والوفرة لك ولهم. سيرزقك الله الأفضل من حيث لا تتوقع، مع قرارك الحاسم تجاههم بعدم العودة. أنت تعلم حقًا أنك تستحق الأفضل وسيرزقك الله ذلك؛ ترفع نفسك من كل موقف لا يتناسب مع سموك وبوصلة مرجعيتك.

تقبل فكرة أنك قد تتعرض لمواقف صعبة وأحيانًا منخفضة للغاية في هذه الحياة الدنيا، ولكن ردة فعلك تجاه السقوط هي ما يحددك. هل ستأخذ عقلية الضحية أم عقلية صاحب الاستحقاق العالي الذي سينهض من هذه المعضلة حاملًا نفسه شامخًا بابتسامة مشرقة يستقبل بها الحياة والوفرة.

الأثر الفردي والمجتمعي لهذا الفكر والعلاقات

إن الخلط بين الغرور والتكبر والتوقعات غير المنطقية من جهة، وبين الاستحقاق العالي من جهة أخرى، يؤدي إلى انخفاض جودة الحياة والعلاقات. الاستحقاق العالي لا يعني الحياة الفارهة والبذخ (وإن رزقك الله ذلك، فهذا نصيبك من الرزق وهذا ما كتبه الله لك، ولكن ليس جميع البشر كتب لهم الثراء والغنى الفاحش، فلنرضى بما كتبه الله لنا). بل الاستحقاق العالي هو خيارات يومية عديدة، يظهر بها شخص مرتفع القيمة كالصقر، حتى وإن كانت حياته وخياراته متواضعة للغاية.

 

المراجع:

  1. كتاب تأملات في السمو الإنساني (ناصر بن دهيم).

  2. "الشعور العالي بالاستحقاق" (2025)، متاح على: https://www.al-jazirah.com/2025/20250226/ln2.htm (تم الاطلاع في 12 يونيو 2025).